الحكاية من سهول مؤتة الرابضة في الكرك الأرض المجبولة بزمازم دم المجاهدين الأبرار والصحابة الكرام الذين إستشهدوا فوق ثراها المبارك.. زيد بن حارثه وعبد الله بن رواحه وشهيد آل البيت جعفر بن أبي طالب، وأضرحتهم مزارات ومنارات تضيء دروب التـضحية والبطولة والفداء..
إنها الأرض المباركة التي تزكت دمائها بشهدائنا الابرار وبمقام الصحابي جعفر الطيار وبهذا الإسم الشامخ بمعاني التضحية في التاريخ الاسلامي الخالد، وهو "أبو عبد الله" جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، إبن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم الهاشمية، وهو ثالث أبناء أبيه بعد طالب وعقيل، وأكبر من علي بعشر سنوات، وقد ولد في مكة المكرمة سنة 34 قبل الهجرة، وكان من السابقين الأولين في الإسلام، وهاجر مع زوجته أسماء بنت عميس الخثعمية الهجرة الأولى إلى الحبشة.
ويلقب بـ"الطيار" وبـ"أبي المساكين" بسبب بره بالفقراء والمساكين، وبـ"ذي الهجرتين" لأنه هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فكانا من أوائل المهاجرين إليها، وولد له فيها أبناؤه: عبد الله وعوف ومحمد، وكان أشد أقارب النبي صلى الله عليه وسلم شبها به، وأحبَّ الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقربهم إلى قلبه، وكان يشبهه عليه السلام وفيه يقول: أما أنت يا جعفر فأشبهت خَلْقي وخُلقي، وأنت من عترتي التي أنا منها..
وهو أيضا أول سفير في الإسلام، وأول من حمل رسالة إلى ملك الحبشة، وقد أسلم على يديه ملك الحبشة النجاشي وعدد من أهلها، وكان له في الحبشة موقف متميز دافع فيه عن الإسلام دفاعاً مؤثراً أمام النجاشي، عندما جاء عمرو بن العاص على رأس وفد من قريش يطلب إخراج المسلمين منها، فإقتنع النجاشي عند ذلك بالإسلام، ورفض طلب القرشيين، وأعلن إسلامه وحمى المسلمين في بلاده.
مكث جعفر الطيار في الحبشة أربعة عشر عاماً وهو أمير المهاجرين ومن أسلم من أهلها يعلمهم فضائل الدين الحنيف ويدعو إلى الإسلام، وفي السنة السابعة للهجرة عاد هو وأهله وجماعة من المسلمين على سفينتين إلى المدينة، وهم آخر من عاد من الحبشة، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر فالتزمه عليه السلام وقبل ما بين عينيه واعتنقه، وقال: "والله لا أدري بأيهم أنا أُسر!.. أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر".. وأنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب المسجد، وأسهم له من غنائم خيبر.
وفي السنة الثامنة من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى مؤتة، في محافظة الكرك جنوب الأردن، وبعد تجهيز الجيش قال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فابن رواحة "عبد الله بن رواحة"، وكان إختيار الرسول عليه السلام جعفراً أحد قادة الغزوة، على أهميتها وخطورتها دليلاً على كفايته القيادية وشجاعته الفائقة، حيث إن هذه المعركة تعتبر المعركة التمهيدية الحقيقية لفتح بلاد الشام، وتأسيس أول ركن لدولة الإسلام خارج الجزيرة العربية، وبعد أن بدأت المعركة وإستشهد زيد بن حارثة، تسلم القيادة واللواء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنها فأخذ اللواء بيمينه فحارب حتى قطعت يمينه، فأخذه بشماله فقطعت فإحتضنه بعضديه حتى قتل، فسقط مضرجاً بدمائه دون أن يسقط اللواء على الأرض، حيث إلتقطه بعض الجنود، وفي جسمه نحو تسعين طعنة ورمية، فقيل إن الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة، ولذلك سمي جعفر الطيار أو جعفر ذو الجناحين.
حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ذكر في عدد من كتب الحديث، وحدّث عنه ابنه عبد الله ومعظم أهله، وكان إستشهاده رحمه الله في شهر جمادى الثانية من السنة الثامنة من الهجرة وله من العمر اثنتان وأربعون سنة ودفن مع صاحبيه في منطقة مؤتة، وقبورهم ظاهرة فيها رحمهم الله جميعاً.
إنها مؤتة.. وفي كل شبر من هذه الأرض الطاهرة المباركة، كانت هناك قصة بطولة، وكل حفنة من تراب هذه الأرض مجبولة بدم المجاهدين والصحابة الذين إستشهدوا عليها