الهلال نيوز/ أكد أستاذ علم الآثار في كلية الملكة رانيا للسياحة والتراث في الجامعة الهاشمية الدكتور محمد وهيب أهمية تراث غزة التي كانت عبر التاريخ محطة هامة للقوافل التجارية بحكم موقعها الإستراتيجي.
وبين وهيب خلال حديثه لـ «الدستور» أن غزة كانت المنطلق نحو قارة أسيا وأفريقيا ومنطلق السفن والبواخر الى قارة أوروبا، كما إنها مركز عالمي ونقطة مواصلات للتبادل التجاري الثقافي حيث اكسبها موقعها بين مصر وبلاد الشام أهمية كبرى جعلتها وجهة جاذبة للحضارات والطرق الدولية مثل طريق البخور الدولي.
غزة والأردن تاريخ عريق
ويؤكد أن الدراسات العلمية ونتائج الاكتشافات الأثرية الميدانية أثبتت أن مدينة غزة كانت مرتبطة بأرض الأردن عبر التاريخ. معتبرا أن هذا الترابط توج برسم مدينة غزة بالفسيفساء الملون على أرضية كنيسة القديس (استيفانوس ) والتي أرخت الى القرن الثامن الميلادي أي ما يعادل 718 ميلادي ضمن مساحة 500 متر مربع، ورسم بجوار غزة مدن فلسطينية أخرى عددها 8 مدن ومن أهمها القدس الى جوار 9 مدن أردنية ومن أبرزها عمان «فيلادلفيا» وعشرة مدن حول دلتا النيل في مصر ومن أهمها مدينة الإسكندرية. ويتضح أن الكنيسة قد بنيت خلال العصر الإسلامي الأموي مما يشير الى حالة الوئام الديني المتواجدة على أرض الأردن منذ العصور الإسلامية المبكرة.
وأوضح وهيب أن رسم غزة الى جوار المدن الأردنية والمصرية يشير إلى التواصل الجغرافي عبر الطرق التجارية والحج المسيحي القادم من فلسطين ومصر الى الأردن قبل أكثر من 1300 عام، حيث ظهرت بوابات وأبراج ونوافذ مدينة غزة وسقوفها المغطاة بالقرميد الأحمر الأمر الذي يشير الى فن هندسة عمارتها المتقدم.
وزاد «أيقونة أخرى جميلة كشفت على الأرض الأردنية مثلت ورسمت مدينة غزة على أرضية فسيفساء كنيسة الخارطة وتسمى أيضا (جاورجيوس) في وسط مدينة مادبا وتؤرخ لمنتصف القرن السادس الميلادي وهي أقدم من صورة غزة في كنيسة أم الرصاص بـ 168 سنه، الأمر الذي من شأنه الإشارة إلى أهمية مدينة غزة بالنسبة إلى الأراضي الأردنية والتواصل الجغرافي غير المنقطع باعتبارها من مدن المشرق الهامة ومن والمراكز التجارية البحرية البارزة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وقال إن «الرسام الاردني» في العصر البيزنطي (سلمان/ سلمانوس) ابن محافظة مادبا هو الذي رسم مدينة غزة وتفنن في إبراز زخارفها وجمالها العمائري بدقة وبراعة قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، كما مثلت خارطة مأدبا الفسيفسائية المعابر التاريخية على نهر الأردن عام 500 م حيث كانت تجارة القوافل وعامة الناس يركبون مركبا خشبيا صغيرا يسمى حاليا (فلوكه) مربوطا بحبل للوصول الى ضفة النهر الأخرى، هذا بالإضافة الى المخاضات والمعابر البرية التي ما زالت شواهدها ماثلة ليومنا الحاضر، مثل معبر جسر المجامع ، ومعبر طبقة فحل باتجاه بيسان ، ومعبر حسبان باتجاه أريحا، ومعبر بير مذكور الى شواطئ غزة، حيث ما زالت آثار الموانئ الغزية في يومنا الحاضر شاهد حيا على التبادل التجاري والاقتصادي والثقافي والديني.
تدمير ممنهج لتراث غزة
وقال انه ومنذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين وفي غزه بالذات يتعرض هذا الإرث الحضاري الانساني الى التدمير الممنهج والتخريب المتعمد والسرقة والتجاهل على مر العقود الماضية، رغم أن التراث الغزي كان دفع نحو اختيار 3 مواقع منها الى القائمة التمهيدية لترشيحها على قائمة التراث العالمي (اليونسكو) حيث تم ترشيح كل من ميناء غزة، وتل أم عامر بمواقعه المختلفة، ووادي غزة، لأهميتها العالمية، إلا أن الخراب لحق بها حيث طال التدمير هذه المواقع خلال العدوان الحالي 2023 والأعوام السابقة أيضا.
ووفقا لوهيب فقد شمل التدمير كل المواقع الأثرية والتراثية والسياحية والمتاحف والمراكز الثقافية والعلمية وخاصة تدمير المساجد التاريخية والكنائس التراثية التاريخية حيث تعرضت المساجد التي ترجع للعصر الأيوبي المملوكي للخراب الشديد.
ومن بين المساجد التي تعرضت للتدمير المسجد العمري النادر والمتميز والذي يرجع تاريخه للقرن 12 و 14 الميلادي، وكذلك مسجد ابن عثمان المؤرخ للقرن الثامن الهجري، كما تعرض مسجد هاشم جد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للتصدعات في جدرانه بسبب استهداف محيطه حيث بني هذا المسجد خلال العصر الأيوبي المملوكي، وتم صيانته وترميمه من طرف المجلس الاعلى الاسلامي، وبه مدرسة ويعتبره الغزيون من التراث الديني المرتبط بالرسول محمد وغيرها من المساجد.
وأضاف وهيب أن آلة الحرب الإسرائيلية طالت بضع كنائس تراثية ودمرتها ومن أبرزها كنيسة القديس (بروفوريوس) المؤرخة الى القرن الخامس الميلادي وهي المرشحة للتراث العالمي، وتدمير الكنيسة المعمدانية، ودير القديس هيلاريون، اضافة الى تدمير التراث الإسلامي العثماني مثل سبيل السلطان عبد الحميد الثاني، كما لحق التدمير بالمتاحف الثقافية التي تعرض إرث غزة الحضاري مثل متحف القرارة ومتحف خان يونس، ومتحف قصر الباشا المشهور بإقامة نابليون فيه، ومتحف رفح، ومتحف العقاد، كما تم تدمير قرية الفنون والحرف، وتدمير البيوت التراثية مثل بيت الغصين، وبيت السقا، وحمام السمرة التراثي المؤرخ الى 1320 ميلادي، فضلا عن تدمير عدد من المراكز الثقافية ومنها المركز الثقافي الارثوذكسي، ولا زالت قائمة تدمير الإرث الحضاري تتكشف يوما بعد يوم.
مؤكدا على أهمية التذكير بالجهود الأردنية وجهود جلالة الملك المتواصلة لإيقاف هذه الحرب المدمرة للبشر والتراث الإنساني، معتبر أن التدخل العاجل من طرف المنظمات الدولية أصبح أكثر ضرورة.
وطالب بإعلان تراث غزة تراثا انسانيا مهددا بخطر الزوال، الأمر الذي يتطلب تدخلا عاجلا لإنقاذه مساهمة المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم ومنظمة العواصم والمدن الإسلامية ومنظمة اليونسكو والايكوموس ومنظمة المتاحف العالمية (الايكوم) وغيرها من منظمات حفظ وصون التراث الإنساني العالمي في مختلف بلدان العالم لحماية التراث الإنساني في غزة هاشم، مستذكرا مقولة الملك الراحل الحسين بن طلال رحمه الله عندما قال: ( ان التراث الانساني ليس ملكا لإنسان بل للإنسانية جمعاء).