عمّان.. دوما وابدا.. قصة عشق يتناغم فيها، باستثنائية جميلة، الزمان والمكان والسكّان.. المدينة التي تتمتع بروح متيقّظة، تحرس أبناءها وتحميهم من غدر الشرور.. هذه الصبية الفاتنة، نمت وتطوّرت لتكون على الدوام، في كل زاوية وزقاق، مصدر جذب وإلهام للفن والإبداع. عمّان وكما ورد في كتاب «عمان حكاية الناس والتلال.. عمان .. مسيرة إنجاز ترسخ المدينة العصرية» الصادر عن أمانة عمان الكبرى، بأن عمان كما ذات الجاذبية الخارقة، يتنقل فيها الزمان بكل يسر واطمئنان بين العريق والحديث، في سيمفونية من الجمال تعزف الطبيعة العمّانية كما تحب الطبيعة أن تكون.. ولعمّان حكايتها مع مواطنيها، تتعدد فصولها بتعدد ألوانهم، وتمتاز ببصماتهم العريقة التي تشد انتباه الفنانين وتربكهم أحيانا، وتغريهم، في الآن نفسه، بالوصول إلى السمو الإبداعي الذي طالما تاقوا إليه..
تسلّق التلال
أخذت عمّان بالتوسّع بشكل تدريجي وبدأت منازلها تتسلق التلال المحيطة بسيل عمّان لتشكّل الضواحي الأولى التي تمتد إلى خارج وسط البلد مثل: جبل عمّان، وجبل اللويبدة، وجبل التاج، وغيرها. وأصبح الدوّار الأول حدّ المدينة الغربي الجديد، والذي كانت تمتد من بعده الأراضي الزراعية الواسعة، أما المؤسّسات العامة كالمدارس الأولى والمباني الحكومية والمستشفيات والأسواق فقد بدأت تظهر على مساحة المدينة الآخذة بالاتساع، ودخلت الحافلات العامة وسيارات الأجرة إلى المدينة لأول مرة لتسير عبر شوارعها ولتعطي معنى جديداً لحركة المدينة وتساعد في إعادة رسم حدود عمّان، ومن الجدير بالذكر أن أول خدمة حافلات منتظمة كانت تربط بين ساحة الملك فيصل ومحطة سكك الحديد، وأصبح شارع المحطة فيما بعد (الذي يُعرف اليوم بشارع الجيش) محوراً لجميع نشاطات النقل ومن ضمنها تجارة السيارات ومحال تصليح السيارات.
أصبحت الأدراج العامة، التي بنيت لأول مرة في العشرينيات، جزءاً من نسيج تلال المدينة، حيث ربطت تلك الأدراج المتجهة في مختلف الاتجاهات ساكني مناطق المدينة بالأماكن الجديدة على لوحة المدينة النامية الواعدة، في رحلة يومية بين الوادي والجبل، لا يزال الناس اليوم يحتفون بأدراج عمّان ويعتبرونها ميّزة فريدة لمدينة أدت طبيعتها الجبلية والإستجابات البشرية لها إلى خلق تجربة حضرية ديناميكية وعفوية.
من دون أي شك، تميّز عقد الثلاثينيات بجهود رائدة ونمو مستمر، إلا أن التاريخ كانت في جعبته خطط أكبر لمدينة عمّان في فترة الأربعينيات، ليُخرج المدينة بذلك من السكينة والهدوء إلى عقد من التحوّلات والتطورات، فعلى الرغم من ابتعاد عمّان عن مآسي الحرب العالمية الثانية في أوروبا، إلا أنها لم تسلم من عواقب هذا النزاع. وبالفعل، تميّزت فترة الأربعينيات بنزاعات دولية ومصاعب اقتصادية، وأمراض عديدة مثل التيفوئيد والكوليرا، إضافة إلى فيضان عمّان في عام 1941 والذي ترك العديد من المنازل والعائلات في دمار، ولكن على الرغم من الصعوبات، فإن الروح الوثّابة للمدينة واجهت تحديات ذلك العقد، وبرزت إلى الوجود أماكن عامة ومؤسّسات جديدة استمرت في وضع الأساسات لعمّان المعاصرة والحديثة، وكانت المقاهي من بين الأماكن التي تجمع ساكني المدينة، مثل مقهى حمدان ومقهى الجامعة العربية ومقهى السنترال، والتي استطاعت أن تستقطب العديد من المثقفين والشعراء والسياسيين إليها بينما فتحت مؤسّسات معروفة في عمّان مثل البنك العربي والكلية العلمية الإسلامية أبوابها مما أضاف سمات حضرية للمدينة.
وفي عام 1946 ، احتفلت عمّان باستقلال الأردن عن الانتداب البريطاني، وكانت منصة الاحتفال الرئيسة مشيّدة في ساحة الملك فيصل وتم تزيينها بأقواس النصر والرايات، كما استعرضت الفرق العسكرية والخيّالة في الساحة بينما تجمهر آلاف المواطنين ليرحبوا بالملك عبدالله الأول عندما عاد من بريطانيا لإعلان استقلال المملكة.
بدأ المجتمع المدني العمّاني بالظهور شيئاً فشيئاً. لقد شكّل مزيج عمّان المتنوع من العرب وغير العرب مجتمعاً «حداثياً»، أي أنه لم يكن مكبّلا بالتقاليد القديمة ولا بالعائلات المهيمنة، فالتنوع في عمّان أدى إلى امتزاج العديد من التأثيرات معاً ومكّن المجتمع من إيجاد استجابات عملية لأسئلة العصر، وهذا ما أسبغ على عمّان الطابع العملي والحداثي.
ومع انتهاء حقبة الأربعينيات، نمت عمّان لتخرج من مرحلة الطفولة والقرية الصغيرة إلى مرحلة أخرى. ومع تراكم الثروة في المدينة وتأسيس الحكومة الأردنية، بدأت بعض المناطق العمّانية تعكس أشكالاً مختلفة من العمران وبدأ التجار الروّاد وأصحاب المهن والسياسيين ببناء منازل لهم فيها، وكمثال على ذلك، فإنك عندما تسير اليوم في شارع الرينبو (والذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى دار السينما التي أنشئت هناك) سترى العديد من المنازل والفيلات التي بُنيت بين عقدي العشرينيات والأربعينيات، وهي تحمل أسماء عائلات عمّانية، مثل منزل البلبيسي ومنازل عائلة القسوس ومنزل منكو ومنزل المفتي وغيرها. وفي شارع الرينبو أيضاً، سترى المنزل الذي كان محل إقامة الملك طلال والملكة زين، والذي تربّى فيه الملك الحسين بن طلال «طيب الله ثراهم»