وكأنّ عمّان، تمنعني من مغادرتها، فقد عُدت إليها لأجل مهمّة سامية كُلّفت بها، مع غيري من أجاويد الناس، طوال الصيف، وظللتُ فيها أسبوعاً إضافياً، لغاية المشاركة في إنتخابات نقابتي، ولكنّ حتّى هذه أبت منّي أن أعود، فلم يكتمل نصاب القوم، وعليّ أن أنتظر أسبوعاً آخر، للإدلاء بصوتي في صندوق الاقتراع !
لن تستطيع عمّان أن تفرض شروطها عليّ، فها أنا أغادرها، رغماً عنهاً، وليكن من شؤونها وشجونها ما يكون، فلم يعد هذا يعنيني، لأنّ موسم حصاد الزيتون ينتظرني، والمطر ينتظرني، ولقاء الرعاة ينتظرني، وذلك الكمّ الوافر من العنب المجفّف على السطح ينتظرني، وقد أصبح الآن بالضرورة زبيباً شهياً!
عمّان تعرف أنّها مدينة لم أعد أنتمي إليها، وقد أخذت من عمري ما استطاعت إليه سبيلاً، وهي تعرف أنّها كسرت فيّ الكثير من دواخلي، ولأنّها أنثى شهيّة ظنّت أنّها ستستعيدني إليها، جسداً وروحاً، ولكنّ الرابح هو الذي لا يُلدغ من جحر مرتين، فما بالكم بالثاني والثالث والرابع، والعيون!
مُذ عشرين سنة تركتها، وما زالت جراحاتها تترك آثارها على جسدي وروحي، ولكنّها تُحاول أن تتسلّل إليّ، وعليّ، وإذا كنتُ أتذكّر بيتاً مع الشعر فهو: "تعبتُ من العناكب في قميصي”، للشاعر الراحل معين بسيسو، وقد قصد غير عمّان لأنّه لم يعرفها، ولو عرفها، لقصدها بالذات.
آسف أنا، ولست آسفاً أنا، ولو للحظة، على ترك حبيبتي عمّان، فبيني وبينها ما صنع الصائغ، وبيني وبينها ما صنع الحدّاد، وبيني وبينها ما يختلط من المشاعر التي تتباين، وتتناقض، وتتناحر، وفي آخر الأمر: هي حبيبة كانت، ومضت إلى سبيلها، وأنا عاشق مضى في سبيله.
أعود إلى مكاني، حيث الليل، والقمر، والشجر، والمطر، ورواق البال، وانتظار نجمة الزهرة حين تحنّ عليّ برونقها المحتلّ للظلام، وأعتذر عن الكتابة حتى حين للقراء، وصديقي سمير الحياري صاحب "عمون”، فها أنا أعود إلى مكاني، بعيداً عن عمّان، وقريباً من نفسي، وللحديث بقية!