الهلال نيوز/ في إطار المواقف المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، صدر، مُتأخّراً، بيانٌ غير مفاجئ لهيئة الأمم المتحدة للمرأة التي أعربت فيه عن قلقها من ممارسات العنف ضد النساء، "النساء الإسرائيليات، والنساء الفلسطينيات، وغيرهن”، مطبّقةً قاعدة "الطرفين” الشهيرة، ومُضمِّنةً في مطلع البيان الإدانة المنشودة لهجوم السابع من أكتوبر، لا للإبادة الموصوفة بحق الشعب الفلسطيني.
كذلك، اضطرّت مديرة منظمة اليونيسف إلى اتخاذ موقف يدعو إلى دعم النساء والفتيات الإسرائيليات ضحايا العنف الجنسي، بعد ادّعاء فرق إسعاف وأطبّاء وشهود إسرائيليّين أن عناصر من حماس سطّروا اعتداءاتٍ عدّة من اغتصاب وتشويه أعضاء حميمة.
في هذا السياق، من المفيد التذكير كيف أنّ الإسرائيليين/ات يحترفون استغلال القضايا المحقّة، كقضية حقوق المثليين/ات في ما اصطُلح عليه الغسيل الوردي، لخدمة السرديّات التي تروّج لها إسرائيل عن نفسها. هذه المرّة، اختار الاحتلال توظيف "الغسيل النسوي” لشحن النفوس وصبّ المزيد من الوقود على حربه الوحشيّة غير المسبوقة على قطاع غزّة، بحجة إنه يخوض حرباً لإنهاء حركة "حماس الهمجيّة التي تغتصب”، وبالتالي، تسويغ الإبادة، وفي الوقت نفسه، تحوير الأنظار عنها باتّجاه مَن هم "أكثر استحقاقاً للتعاطف”، أي الإسرائيليات، ضحايا "همجية السكّان الأصليين”.
ما تتكلّم عنه إسرائيل وتحاول أن تدعمها به بعض المؤسسات الدولية، يُحيلُ الذاكرة تلقائياً إلى دليل المستعمِرين في التعامل مع الشعوب المستعمرَة الذي شرّحه فرانس فانون، أو دليل ذوي البشرة البيضاء في التعامل مع ذوي البشرة الداكنة الذي شرّحته أنجيلا دايفيس، وتحديداً إلى تكتيكَين واضحَين وضوح الشمس، شاركت في إحيائهما إسرائيل وداعميها، وهما: التصديق التلقائي للقوي الأبيض، والاتّهام الجاهز ضد الرجل المحكوم الأسود وتصوير أي حادثة يمكن أن تكون وقعت، أم لا، على أنها جزء من سلسلة اعتداءات ممنهجة ضد البيض، ترسيخاً للتبريرات التي تقضي بوجوب عزل المجموعات المقموعة وتعميم التوجّس والخوف ثقافةً وركيزةً لنجاة القوي، قبل الضعيف.
أمّا الذي صدر عن هيئة المرأة واليونيسف وغيرهما من الجهات الدولية بعد شهرين من جرائم حصار وإبادة وتهجير وتنكيل بحق الشعب الفلسطيني، فليس مستغرباً لكونه يشجب مسألة العنف الجنسي المتداولة أو يعترف ويهتم بما يجري في إسرائيل، فتلك العبارات من بدهيات اللغة الأممية التي تتّسم بها تلك الأوساط، وجزء من حساباتها الطبيعية، ولا تستوجب الذهول.
لا بل يمكن أن يرى المرء في ذكر الفلسطينيات في البيان نفسه تطوّراً، في الواقع، ما صدر عن الجهات المعنيّة بحماية النساء والفتيات، يمكن أن يخدم آلة البروباغندا الإسرائيلية ويذلّ المجتمع الدولي، لناحية وصوله بعد شهرين من التأمّل والتفكير ليتوسّل رضاها، رغم فظاعة ما اقترفت، من دون أن يلقاه.
في منطقتنا، يمكن العودة سريعاً إلى ماضينا لتقفّي جذور التوتّر الحاصل بين نسويّات الاستعمار ونسويات المنطقة.
اليوم، نشهد ما هو أبعد من ذلك. نشهد على تباينات في المواقف ممّا يجري في الميدان، ليس على صعيد الفروقات بين الهيئات الدولية والمجموعات النسوية الناشطة على الأرض فحسب، بل حتى بين المجموعات النسوية نفسها، لا سيما بين تلك الفاعلة في الجنوب التي لها باعٌ طويل من المعاناة مع الاحتلال والاستعمار والإفقار، وأخرى ناشطة من الشمال المُموِّل، تنبذه حيناً وتتشبّه به حيناً آخر (من دون التعميم).
في منطقتنا، يمكن العودة سريعاً إلى ماضينا لتقفّي جذور التوتّر الحاصل بين نسويّات الاستعمار ونسويات المنطقة. ففي مطلع القرن العشرين مثلاً، أخذ "الاتّحاد النسوي المصري”، الريادي في مجال تسييس النضال النسوي، يبتعد شيئاً فشيئاً عن التنظيمات النسوية الغربية التي لم تستوعب نسويّة الاتحاد المُلتصقة بضرورة التخلّص من الاستعمار البريطاني وأزلامه كمدخلٍ أساسي لتحرّر النساء في أرضهنّ من دون أن يلغي ذلك المعارك الأخرى.
في ذاك الوقت ظلّت التنظيمات الغربية متعلّقةً بنظرية تشابه تجارب النساء واحتياجاتهن في كل أصقاع الأرض، ومهتمّةً بشكل شبه حصري بأولويّة حق النساء في الاقتراع التي رفعها آنذاك "التحالف الدولي للنساء”، لا بإزالة خناق الاستعمار عن رقاب رفيقاتها اللواتي انشغلنَ بتحدّي الاستعمار والدفاع عن النساء في آن واحد.
وتاريخنا هذا يشبه إلى حدّ بعيد ما يحصل راهناً من تركيزٍ غربي مصبوبٍ على الترويج "لسياسات خارجية نسوية” وعلى محاربة العنف المبني على النوع الاجتماعي، بمعزل عن محرّكات هذا العنف وجذوره المرتبطة بالاستيطان والاحتلال والعسكرة التامّة للبلاد.
انطلاقاً من هنا، نفهم كيف توقَّعَ الإسرائيليون، بعد انتشار شهادات عن العنف الجنسي على منابر إعلامية إسرائيلية، ولاحقاً على منصّات غربية مرموقة، إدانة نسوية وحقوقية وأممية واسعة وسريعة، تُضاف إلى الإدانة الأولى التي أعقبت عمليّة السابع من أكتوبر، ليراكموا الإدانة تلو الأخرى ويشيحوا بأنظار العالم ولو للحظة عن جرائمهم اليومية.
نفهم عبر تكتيكات الإدانة هذه كيف عاد القوي، عن طريق توظيفه قضيّةً محقّةً، ليُسجّل نقطة في شباك المجتمع الدولي ويحرجَه، بعد أن أحرجه أوّلاً على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي قال منذ شهرين أنّ السابع من أكتوبر "لم يحدث من فراغ”.
عندما طلب فولكر تورك، مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، من بنيامين نتانياهو، السماح لبعثة أمميّة مستقلّة التحقيق في الانتهاكات الجنسية والخروج بخلاصات حول طبيعتها وحجمها، كان يمكن أن تكون لصالحه، جُوبِه بالتجاهل والصمت، ليبقى الإسرائيليون/ات متحكّمين بمفاصل الرواية ومتمسّكين بغسيلهم الوردي والنسوي، علماً أنّ الاعتداءات المذكورة أو أخرى أخفّ أو أشدّ وطأة منها يمكن أن تكون حصلت، ولا خوف من افتراض الأمر، ذلك أنّ التاريخ علّمنا أن ما من مجموعة رجال مسلّحة أو متديّنة في الأرض منزّهة عنها، مهما علا شأن قضيّتها، مستعمِرة كانت أم مقاوِمة.
التاريخ علّمنا أيضاً أنّ نضالنا النسوي الذي تمرّس على التصويب على أشكال اضطهادٍ متشابكة ومعقّدة، أذكى من أن يقع في فخّ تنزيه جهة أو "عدم تصديق الناجيات” بمَنْ فيهنّ أهل الخصم المحتل والذكوري الذي لا يجب أن ينتهي بنا المطاف في التشبّه به.
لذا، لا داعي لخوض محاولات إثبات الاتّهامات لصالح إسرائيليات ينعمنَ بدعمٍ محلي ودولي هائل أصلاً، أو محاولة إثبات عكسها حفاظاً على قدسيّة متوهّمة لن تنفع في شيء.
ما يهمّنا اليوم حقّاً، هو مواصلة مواجهة واحدة، هي مواجهة إبادة ونكبة لن تمحوهما أي ادّعاءات، صادقة كانت أم كاذبة، ودعم من يكابدونها باللحم الحيّ، بكل ما أوتينا من قوّة.