يشهد يوم التاسع من ربيع الأول من كل عام، احتفال قطاع كبير من الشيعة الإمامية الاثناعشرية بالعيد المعروف باسم "فرحة الزهراء". ورغم كثرة الأقاويل الواردة حول سبب خصوصية هذا اليوم على وجه التحديد، فإن الرأي الغالب في الأوساط الشيعية يؤكد على أنه استمد قداسته وأهميته من جراء مصادفته لحادثة اغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي في العام 23 من الهجرة.
عبر القرون، ظهرت تأثيرات سياسية في إعادة بناء السردية المذهبية المُتخيلة، والتي ستختلف درجة التعاطي النخبوي والشعبي معها بحسب ظروف التقريب/ التعصب المذهبي في كل مرحلة.
رواية مقتل الخليفة الثاني
لمّا كان الاعتقاد الشيعي الإمامي التقليدي يذهب إلى أن الله نصّب عليّاً بن أبي طالب، في غدير خم في الـ18 من ذي الحجة من العام العاشر من الهجرة، في منصب الإمامة، ليخلف النبي بعد وفاته، كان من الطبيعي أن ينظر الشيعة للخلفاء الثلاثة السابقين على ابن عم الرسول على كونهم عُصاة، بُغاة، خالفوا أمر الله ورسوله، واغتصبوا حقاً ليس لهم.
الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، تحديداً، حظي بالقدر الأكبر من كراهية الشيعة، فقد اعتبره كثيرون المدبر الأول للمؤامرة على آل البيت، كما اتهمه البعض بالاعتداء على ابنة الرسول، فاطمة الزهراء، وكسر ضلعها، وإسقاط جنينها، ما أدى إلى وفاتها في نهاية المطاف، وذلك حسبما يذكر محمد باقر المجلسي (ت. 1111هـ) في موسوعته "بحار الأنوار".
في هذا السياق، يمكن فهم الظرف التاريخي والمذهبي الذي تسبب في تشكيل الملامح العامة لما عُرف بعيد فرحة الزهراء، والذي ارتبط بحادثة اغتيال الخليفة الثاني، وهي الحادثة التي وقع الاختلاف في تحديد تفاصيلها بين كل من السرديتين، السنّية والشيعية.
الرواية السنّية التقليدية، والتي وردت في الكثير من المصادر التاريخية المعتمدة، ومنها على سبيل المثال كل من "الطبقات الكبرى" لابن سعد (ت. 230هـ) و"تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبري (ت. 310هـ)، تتفق على تحديد يوم الـ26 من ذي الحجة من عام 23هـ، كتوقيت لوقوع حادثة اغتيال عمر بن الخطاب.
تذكر هذه المصادر أن المغيرة بن شعبة، والي الكوفة، أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة المنورة، ليستأذنه في أن يرسل إليه بأبي لؤلؤة، وهو أحد الموالي البارعين في الصناعة، وخصوصاً في أعمال الحدادة والنجارة والنقاشة. وتُستكمل الرواية بأن أبا لؤلؤة لمّا قدم إلى المدينة، ولمّا كان المغيرة قد فرض عليه خراجاً شهرياً كبيراً يُقدَّر بمئة درهم، فإن المولى ذهب إلى عمر ليشتكي له، ولكن الخليفة الثاني لم يقتنع بشكواه لمّا عرف بطبيعة عمله، فغضب أبو لؤلؤة من عمر وقرر قتله "وكَمَنَ في زاوية من زوايا المسجد في غلس السحر"، وانتظر حضور عمر في صلاة الفجر، فلما اقترب عمر منه، وجّه الطعنات له، ولمَن يحيطون به من المسلمين في الصفوف الأولى، حتى أسقط منهم 11 رجلاً، ثم قتل نفسه لما أحاط المسلمون به، وخاف أن يقع في أيديهم.
على الجانب الآخر، نجد أن الكثيرين من علماء الشيعة المعتبَرين على مر القرون أضفوا مسحة من مسحات القداسة على حادثة اغتيال عمر بن الخطاب، فعملوا على إعادة تقديم الحادثة بشكل يبرز ملامح بطولة أبي لؤلؤة، بحيث يظهر كبطل شيعي مسلم، يقتص للسيدة فاطمة الزهراء ممّن ظلمها وتسبب في قتلها.
وبحسب بعض هذه الروايات، فإن أبا لؤلؤة لم يُقدِم على اغتيال عمر، إلا بعد تكليف مباشر وصريح من علي بن أبي طالب نفسه، حتى أنه لمّا طعن عمر، هرب وأقبل على منزل علي، وكان وقتها جالساً على باب داره، فلما وجد أبا لؤلؤة، قام من مكانه وقعد في مكان آخر "فلما أقبل الناس يطلبون القاتل، أقسم (علي بن أبي طالب) أنه منذ أن جلس في هذا المكان لم يشاهد أحداً"، وبعد ذلك حمل أبا لؤلؤة على بغلته، وقال له أن يتركها تسعى حتى تقف من تلقاء نفسها، فسارت به البغلة حتى وصلت إلى مدينة قم في إيران، حسبما يذكر عماد الدين الطبري المتوفى في القرن السادس الهجري في كتابه "كامل البهائي".
الربط بين العيد وحادثة اغتيال عمر
يمكن القول إن اعتياد الشيعة على الاحتفال في يوم التاسع من ربيع الأول من كل عام كان إحدى المسائل التي ارتبطت بتطور النظرة إلى واقعة اغتيال عمر بن الخطاب في المِخيال الشيعي الجمعي، إذ عُرف هذا اليوم في الأوساط الشيعية الإمامية باسم عيد فرحة الزهراء، واعتُبر عيداً مكملاً لعيد الغدير الأغر، وقيل إنه "إذا كان يوم الغدير عيداً للتولي، فإن يوم التاسع من ربيع الأول هو عيد التبري"، حسبما يذكر رجل الدين الشيعي المعاصر أبو الحسين الخوئيني في كتابه "شهادة الأثر على إيمان قاتل عمر".
في الواقع، هناك العديد من الأدلة التاريخية التي تؤكد أن اعتماد الشيعة لتاريخ التاسع من ربيع الأول كذكرى لمقتل الخليفة الثاني كان أمراً مستحدثاً، وأنه لم يظهر في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة.
على سبيل المثال، نلاحظ أن واحداً من أهم أعلام الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري، وهو محمد بن محمد بن النعمان العُكبري، والمعروف بالشيخ المفيد (ت. 413هـ)، لم يذكر أي أفضلية ليوم التاسع من ربيع الأول في كتابه المهم المُسمى بـ"مسار الشيعة".
وفي السياق نفسه، سنجد أن أغلب المؤرخين الشيعة المتقدمين، من أمثال اليعقوبي والمسعودي وأبي الفرج الأصفهاني، قد اتفقوا مع غيرهم من المؤرخين على أن تلك الحادثة وقعت في الـ26 من ذي الحجة، ولكن من الملاحظ أن قضية تحديد يوم قتل عمر أخذت أبعاداً إشكالية منذ نهايات القرن الرابع الهجري، إذ بدأ عدد من علماء الإمامية في تحديد التاسع من ربيع الأول كتوقيت لوقوع عملية الاغتيال، وذهب إلى ذلك كل من محمد بن علي بن بابويه القمي، المعروف بالشيخ الصدوق (ت. 381هـ)، وأبي جعفر محمد بن جرير الطبري الشيعي (ت. بعد 411هـ)، ورضي الدين علي بن طاووس الحلي (ت. 664هـ).
بعض الأقوال الشيعية ترى أن يوم التاسع من ربيع الأول كان محط اهتمام وتعظيم لدى الشيعة لأسباب أخرى، ومنها على سبيل المثال أنه اليوم الذي وصل فيه الرسول مهاجراً من مكة إلى يثرب، ومنها أنه اليوم الذي قُتل فيه عمر بن سعد بن أبي وقاص، قائد الجيش الأموي الذي ارتكب مذبحة كربلاء عام 61هـ، أو أنه اليوم الذي فُصل فيه رأس عمر بن سعد عن جسده، وأُرسل به إلى الإمام علي زين العابدين بن الحسين في المدينة المنورة، كما قيل أيضاً إن التاسع من ربيع الأول كان أول يوم في ولاية الإمام الثاني عشر، المهدي الغائب، محمد بن الحسن العسكري.
معنى ذلك أن الرأي التاريخي التقليدي كان متفقاً مع الرأي الثيولوجي الشيعي في تحديد توقيت اغتيال عمر حتى بدايات القرن الخامس، وأن الآراء التي كانت تذهب إلى أن مقتل الخليفة الثاني قد وقع في التاسع من ربيع الأول، لم تمثل أكثر من رأي شاذ لا يُحتج به، وليست له قيمة اعتبارية في تلك القرون المتقدمة.
ولكن مع تلاحق القرون، وتعميق حالة التماهي والتداخل بين المجال السياسي من جهة، والمجال المذهبي من جهة أخرى، ووصول ذلك التماهي إلى حدوده القصوى في عصر التنافس الإيليخاني-المملوكي، في القرن الثامن الهجري، وعصر التنافس الصفوي-العثماني، في القرن الحادي عشر الهجري، تحوّل الرأي الغالب في الأوساط العلمية الشيعية إلى تبني الاعتقاد الذاهب إلى وقوع عملية قتل عمر في التاسع من ربيع الأول، وجرى العمل على ربط الفضائل العظيمة التي ذكرتها المصادر الشيعية الإمامية، حول مكانة هذا اليوم على وجه الخصوص، بحادثة اغتيال الخليفة الثاني، وظهر الأمر في النهاية على أن واقعة الاغتيال هي نفسها سبب تقديس ذلك اليوم وتعظيمه.
الاحتفال بالعيد بين مؤيد ومعارض
من أهم الروايات التي تشرح مكانة عيد فرحة الزهراء في الذهنية الشيعية الإمامية، تلك الرواية الواردة في بحار الأنوار، والتي نُسبت إلى الإمام الحسن العسكري (ت. 260هـ)، وهو الإمام الحادي عشر عند الشيعة الإمامية الاثناعشرية، والذي قيل إنه حكى لبعض أصحابه أن كلاً من الحسن والحسين، ابني علي بن أبي طالب، قد حضرا بين يدي الرسول يوم التاسع من ربيع الأول، فبشرهما بقرب مقتل عمر بن الخطاب، ثم ذكر أن الله عز وجل قد أوحى إليه بفضل ذلك اليوم، فقال له "يا محمد... إني قد أمرت ملائكتي في سبع سماواتي وشيعتك ومحبيك أن يعيدوا في اليوم الذي أهلكته فيه، وأمرتهم أن ينصبوا كرسي كرامتي بإزاء البيت المعمور ويثنوا علي ويستغفرون لشيعتك ولمحبيك من ولد آدم يا محمد وأمرت الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق في ذلك اليوم، ولا يكتبون شيئاً من خطاياهم كرامة لك ولوصيك. يا محمد إني قد جعلت ذلك اليوم يوم عيد لك ولأهل بيتك، ولمَن يتبعهم من المؤمنين وشيعتهم...".
وفي السياق نفسه، حكت الرواية المتقدمة أن ليوم التاسع من ربيع الأول ما يزيد عن المئة وسبعين اسماً، من أبرزها، يوم الغدير الثاني، يوم فرج الشيعة، ويوم سرور أهل البيت...
الاحتفال بعيد فرحة الزهراء أو بعيد بابا شجاع الدين أو عيد عمر-كاشان بحسب ما هو شائع في الكثير من المناطق الإيرانية، أخذ شكله الرسمي المُعتمد في عصر الدولة الصفوية، إذ اهتم الصفويون بتشييد مقام أبي لؤلؤة في مدينة كاشان، وشجعوا الشيعة على زيارة هذا المقام، ولا سيما في التاسع من ربيع الأول، كما أنهم دعوا العلماء لتصنيف الكتب حول هذا العيد، وكان من بين هؤلاء العلماء عبد الله الأفندي (ت. 1130هـ) الذي كتب رسالته المسماة "التحفة الفيروزية الشجاعية إلى مقام السلطنة السنية الحسينية"، وذلك بتكليف مباشر من السلطان حسين الصفوي.
يمكن القول إن هذا العيد قد أُقحم على روزنامة الأعياد والمناسبات الشيعية المعتمدة، منذ ذلك التوقيت على وجه التحديد، إذ اعتاد الصفويون، ومَن سار على دربهم من الشيعة العراقيين، على الاحتفال بهذا العيد بصور متعددة في العصور الصفوية، والقاجارية، والبهلوية.
الأمر الجدير بالذكر هنا أن زخم الاحتفال بعيد فرحة الزهراء كان، ولا يزال، يتناسب طردياً مع حالة الشحن المذهبي المتصاعد في المنطقة، فكلما تصاعدت نبرة العداء السنّي-الشيعي، فإن الطقوس والشعائر المرتبطة بعيد فرحة الزهراء كانت تزداد وتتعاظم بالمقابل، ولا سيما تلك المرتبطة بزيارة مقام أبي لؤلؤة، وتوجيه السب واللعن للخليفة الثاني.
كثيرون، ومنهم على سبيل المثال كل من آية الله روح الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، وخليفته علي خامنئي، المرشد الحالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، عملوا على التقليل من حالة الزخم المصاحب لذلك العيد، وذلك من خلال إغلاق مقام أبي لؤلؤة في كاشان في وجه الزوار من جهة، وعدم القطع بصحة الروايات الواردة في فضل هذا اليوم من جهة أخرى.
وفي السياق نفسه، شكك مجموعة من المراجع المعاصرين في الروايات الواردة في مقتل فاطمة الزهراء على يد الخليفة الثاني، وعدّوها من ضمن المرويات الضعيفة التي لا يمكن الاحتجاج بها، ومن أهم هؤلاء كل من آية الله محمد حسين آل كاشف الغطاء، وآية الله كمال الحيدري، فضلاً عن رجل الدين اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله.
على الجانب الآخر، عمل العديد من رجال الدين الشيعة المؤيدين لحالة التعصب المذهبي على الترويج لعيد فرحة الزهراء على كونه من الأعياد الشيعية التي لا يمكن المساس بها أو نقدها، ومن أهم أصحاب هذا التوجه آية الله صادق الشيرازي، زعيم التيار الشيرازي في إيران، والذي وضع على موقعه الإلكتروني بياناً وضح فيه موقف مرجعيته من ذلك العيد، جاء فيه: "رحلت الزهراء عليها السلام وظلت نار العداء لها ولأهل بيتها عليهم السلام متقدة من قِبل الأعداء لا تخمد أبداً... وبما أن حقها قد غُصب وأُحرقت باب دارها وأُسقط جنينها واقتيد ابن عمها ليبايع أئمة الضلال المتجاوزين على حقوق الله ورسوله... أما حق لها أن تفرح يوم يفارق هذا الدنيا؟ ويذهب إلى الدار الآخرة ليتلقى جزاءه بما عمل ويواجه الله ورسوله وينال نصيبه من العذاب بسوء صنيعه؟".
في السياق نفسه، رد رجل الدين الشيعي المثير للجدل، والمعروف بنيله من رموز المذهب السنّي، الشيخ ياسر الحبيب، على موقعه الإلكتروني على سؤال وُجه إليه بخصوص حكم الاحتفال بعيد فرحة الزهراء بقوله: "الإجماع حاصل على استحباب إحياء هذا العيد بالفرح والسرور والتوسعة على العيال والصيام شكراً لله تعالى على النعمة وهلاك الطاغي، والقيام بسائر الأعمال العبادية التي أوصى بها الأئمة المعصومون، وخصّوا بها هذا اليوم، كالاغتسال ونحوه...