الهلال نيوز/ أعلنت ردود وتعليقات كثيرة موافقتها على دعوة أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في 6 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، إلى إعمال المادة 99 من ميثاق المنظمة الدولية. وتخوّل المادة مجلس الأمن إلزام الدول المتحاربة بوقف إطلاق النار، تحت علة موجبة هي الحؤول دون تفاقم نزاع أو حال تهدد السلام والأمن الدوليين. ويوكل صوغُ المادة إلى قوة القضية المعنوية، وتعلقها بالأصل القانوني الذي سوَّغ نشوء المنظمة الدولية (بناء عالم خالٍ من الحروب)، حلولها المضمر محل الفصل السابع من الميثاق، وتوسّله بالعقوبات المشدّدة إلى الصدوع بالقانون.
وسبقت الرسالة الأخيرة، علاجاً لشلل مجلس الأمن وعجزه عن صوغ قرار لا ينقضه أحد الأعضاء الدائمين الخمسة (الولايات المتحدة غالباً هذه المرة)، توصية اقترعت عليها 121 دولة في الجمعية العمومية، في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وناشدت إسرائيل و"حماس" وقف النار، وإغاثة المدنيين، الغزاويين، وإنشاء ممر إنساني، والإفراج عن الرهائن. وتولّت دولة الإمارات العربية كتابة مشروع القرار، وهو يسبغ على الرسالة حلّة تنفيذية وإجرائية. وبرر المشروع الإماراتي طلب الأمين العام بـ "أسباب إنسانية"، وأوجب "امتثال كل الأطراف لالتزاماتها" القانونية الدولية، "بحماية المدنيين".
وليس في ديباجتي رسالة غوتيريش ومشروع قرار الإمارات، على خلاف نص المادة 99 من الميثاق، دلالة بالاسم إلى الصفة الدولية. فالأمين العام نبّه إلى "كارثة ذات آثار محتملة، ولا رجعة فيها، على الشعب الفلسطيني كله، وعلى السلام والأمن في المنطقة". ولا يتخطى النص أفق الأخطار الإقليمية إلى أفقها الدولي، ولو من طريق التداعي اللفظي والآلي الشائع. والكارثة التي يصفها، ويخاف آثارها، حيوية أو بيولوجية وسكانية. وتلمح إلى التشويه الوراثي الذي يلحقه الجوع والعطش والرعب والقلق والأوبئة في سلامة الجماعات. والقانون الدولي الذي يستظهر به المشروع الإماراتي، ويلزم بحماية المدنيين من القتل والتنكيل (بواسطة الجوع والحرمان من الإغاثة الطبية)، إنساني في المرتبة الأولى.
الإنسانية
والتردُّد أو الترجّح في وصف العلاج الظرفي أو الموضعي "للأعمال العسكرية" التي تدور على أرض غزة قرينة ربما على تردد وترجّح في وصف هذه الأعمال، وتعريفها تعريفاً قد يلقى الإجماع. ومنذ اندلاع العمليتين المتكاملتين، "طوفان الأقصى" – "السيوف الحديد"، شهدت المحافل الدولية والإقليمية والمحلية والمنظمات المتفرقة، مناقشات وخلافات حادة موضوعها هو هذا: وصف العمليتين وعلاقة الواحدة بالأخرى، على أي ترتيب جرى التقديم أو التأخير.
فاجتماعات مجلس الأمن، وجمعية الأمم المتحدة العامة، ومجلس التعاون الخليجي، والتكتل من أجل المتوسط، والقمة العربية- الإسلامية الاستثنائية في الرياض، والقمم الثنائية مذذاك... تفرّقت على تأويل الحق في الدفاع عن النفس، وتناسب وتكافؤ الرد، وتحييد المدنيين أو التذرّع بهم، وعلى حد الإبادة، وصفة المتحاربين ("محاربون غير نظاميين" على وصف التشريع الأمريكي لمقاتلي "القاعدة"، أم "أنصار" يقاتلون احتلالاً على ما وصف مفاوضو الحلفاء في جنيف مقاتلي حركات مقاومة النازية)، جاهرت بتفرّقها أم سكتت عنه.
وبينما يلبس القتال لباس حرب بين دولتين، أو كيانين سياسيّين، وسلطتين مركزيّتين تتمتع كلتاهما في بلدها بالمشروعية السياسية التي تخوّلها تمييز الصديق من العدو وإعلان حال الطوارئ– على وجهين مختلفين من غير شك-، تفتقر إحدى "الدولتين"، حركة المقاومة الإسلامية (خارج السلطة الفلسطينية، وخارج مرجعيتها، منظمة التحرير الفلسطينية)، إلى التمثيل الكياني السياسي.
والافتقار هذا، فعلياً وعملياً، ليس نقصاً، بل هو عامل راجح وغالب في تكوين الحركة، وحيويّتها، واستمدادها من مرونتها ومراعاتها الظروف المتغيّرة القدرة على التجدُّد. وآية ذلك انتهاجُها خطاً معارضاً ومسلحاً حاداً في وجه منظمة التحرير، وجهازها الفتحاوي وانخراطها في نظام إقليمي هلامي (من غير قواعد مشتركة ومقروءة) ومتحجّر (ضيق هوامش الاستقلال والمبادرة) معاً.
فوسعها، في "الغاب" الغزاوي الذي أشرفت السياسة الإسرائيلية، من شارون إلى نتانياهو، على سن شريعته، دمجَ أهاليه، و80 في المئة منهم نازحون، مرة أولى وثانية وثالثة وعلى مشارف رابعة قاضية، في "مجتمع حرب" على حرف الثوران.
وهي، اليوم، في خضم الاضطرابات والمنازعات المحلية والإقليمية والدولية، معلّقة في اشتباه أو التباس سياسي لا مخرج واضحاً وسهلاً منه. فلا يجمع المعنيون الكثر، وهم العالم كله البعيد والقريب وما بينهما، إلا على "إنسانية" المعالجة المباشرة و"قانونيتها" العمومية والمبدئية. و"حركة المقاومة الإسلامية" كانت، من تلقاء نفسها وإرادتها السياسية والوطنية، المبادرة إلى الهجوم، وإلى الفصل الأول من الحرب، حُملت مبادرتها يومها على الابتداء أم حملت على فصل وسيط من فصول يعود "أولها" إلى 75 سنة، أو إلى قرن وسنة (إلى 1922، تاريخ إحدى المواجهات اليهودية- العربية الدامية الأولى). وهذه "الذات" السياسية والعسكرية الفاعلة، لا ممثل، أو مندوب، أو مفاوض، لها وعنها في المؤتمرات والمداولات التي تتناول حربها وقضيّتها، ومصير هذه وتلك.
ريع الخارج
والحلقة الأولى من هذا الغياب تعود إلى "الداخل" الفلسطيني، أو تبدأ فيه. فـ"حماس" واحدة من سلطتين فلسطينيتين تتولّيان "حكم" قطاعين، أرضاً وشعباً، من فلسطين. والسلطتان تتحاربان، وتفرّقهما خلافات على كل المسائل تقريباً. وعلى مثال عربي غالب، لكلتا السلطتين نفوذ وأنصار و"عملاء" في حَرَم أو حمى السلطة الأخرى، وفي الأبنية والأجسام الأهلية. وقول الرئيس الفلسطيني محمود عباس إن السلطة لم تخرج من القطاع في 2007، غداة انتصار "حماس" الانتخابي ثم طردها أطر "فتح" ورؤوس طاقم السلطة، أي استمرت على تسديد رواتب الموظفين- هو نظير ضعيف لحال "حماس"، أي تغلغلها في صفوف فلسطينيي الضفة والقدس، في المخيمات والمدن والبلدات، وفي أسلاك السلطة والجمعيات والهيئات البلدية.
ويتجاوز الانقسام السياسي، وبطانته الأهلية والاجتماعية، شكل المعارضة إلى الانقسام المسلح. وكلا الطرفين لا يتورّع، ولم يتورّع عن التواطؤ على خصمه مع أجهزة الاحتلال، إما من طريق التنسيق الصريح أو المستتر (و"الحماية" لقاء التنسيق، على ما حصل في معالجة "عرين الأسود"، في جنين)، وإما من طريق التوريط والتخيير بين التعاون مع الاحتلال وبين التعرّض لقمعه في حال الإغضاء عن التصدي لبعض أعمال "حماس".