كانت الأجواء جنائزية، والرايات السوداء مرفوعة، فوق أسطح البيوت.. كان الأردن كُله يغرق في الحزن الكظيم، يوم الإثنين 29 تشرين الثاني من عام 1971 عندما شيع جميع أبناء الوطن وصفي التل من منزله في ضواحي صويلح إلى الأضرحة الملكية في عمان.. عشرات الآلاف ساروا وراء النعش الطاهر، وكان الملك الحسين بن طلال «طيب الله ثراه» يتقدم الموكب الأحمر للجنازة، والجميع «يطق لثمة شمغهم» الحمراء المهدبة بصبر الأردنيين، وذلك لإخفاء دموعهم، لأن البكاء عيب في عرف الرجال، لكن كيف سيكون الأمر إذا كان الراحل بحجم «وصفي»!..
نعم، كان هناك شعور عام بالفجيعة، وكان هناك استنكار جماعي للجريمة البشعة.. لا فرق بين فلسطيني وأردني، في «أرض الرباط».. لذلك بكاه الحسين «القائد» وبكاه الأردنيون والفلسطينيون.. فهو من أعطى عمره للأردن، وتشاء «المؤامرات الموسادية» القذرة من خلال أدوات رخيصة، استخدمها كـ»مخلب قط» و»بنادق للإيجار»، ليلاقي وصفي وجه ربه في أرض الكنانة، وأن يضحي بدمه الزكي في سبيل مشروعه الذي لم يكتمل «تحرير فلسطين» من العدو الإسرائيلي الغاصب.. لتنسج الأردنيات أكفان وصفي بدموعهن، وليبقى تاريخا لا يُمحى وذكرى أبدا أبدا أبدا.. لا تموت..
«وصفي» الذي يقدم لأجيالنا نموذجا فذا يحتذى به، في الرجولة والشجاعة والوطنية والقومية.. النزاهة والأمانة.. العمل المنجز وفعل الإيمان.. وقلبه يخفق أملا وعملا لتحرير فلسطين، ودحر العدو من أرضنا العربية الطاهرة، وهو ما سنتوقف عنده في «الدستور» لرصد الشيء القليل من تضحيات «الشهيد» في سبيل مشروع الدفاع عن فلسطين ومن ثم العمل على تحريريها:
انهيار الحكم هدف إسرائيلي
في البداية.. يقول د. فيصل الغويين في دراسة بحثية دقيقة تحت عنوان: «أضواء على سيرة الشهيد وصفي التل»: عملت على الساحة الأردنية العديد من المنظمات، والتي شهدت حركات انضمام وانشقاق متواصلة، تقاطعت مع تأثيرات أجهزة المخابرات العربية والدولية، فظهرت «الجبهة الشعبية» بقيادة جورج حبش، و «الجبهة الديمقراطية» بزعامة نايف حواتمة، و»جماعة عصام السرطاوي» المنشقة عن فتح، والتي أصبحت منظمة تابعة للقوات العراقية في الأردن، و»جبهة النضال الشعبي» التي تأسست كمجموعة مستقلة من «حركة القوميين العرب»، و»منظمة فلسطين العربية» المنشقة عن» الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة»، و»المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين» التي تأسست برعاية سورية، و»تنظيم الصاعقة» الذي تأسس في سوريا، وامتد إلى الأردن بقيادة ضافي الجمعاني، و»جبهة التحرير العربية» التي أسسها حزب البعث العراقي، لتكون منافسا لمنظمة الصاعقة السورية، و»قوات الأنصار» التي أسستها الأحزاب الشيوعية العربية، وغيرها من التنظيمات.
وفي هذا المشهد الذي تقاطعت فيه مصالح قوى عربية تعمل ضد الأردن مع مراكز قوى داخل المملكة كما يقول د. الغويين، تعززت لدى وصفي القناعة بوجود مخططات إقليمية دولية تحاول الدفع باتجاه أن تتولى المنظمات قيادة العمل السياسي والتفاوض بدلا من التحرير، بعد أن بدأت الخلافات بين المنظمات متعددة المشارب والمرجعيات السياسية والفكرية تظهر أمام الرأي العام. وأخذت العناصر الدخيلة المدسوسة تتسرب إلى صفوف الفدائيين، كما ساعد تسرب العملاء وخاصة الذين جندتهم إسرائيل، أن يكونوا عنصراً هاماً في تخريب وتوجيه بعض المنظمات، وتكاتفت عدة قوى عربية ودولية لإيجاد حل وتصفية للقضية الفلسطينية على حساب الأردن، وإشباع رغبة بعض العرب بدولة فلسطينية، ولو لم تكن على شبر واحد من أرض فلسطين، وكان وصفي وصل في تلك المرحلة إلى قناعة بأنّ انهيار الحكم في الأردن هو من أول أهداف الإستراتيجية الإسرائيلية، ويؤكد التل أن هذا الوضع لم يكن من باب الاستنتاجات، بل هو حقائق ووثائق اعترفت قيادات الفدائيين بمعظمها، وعندما يروي كيف وقعت فتنة أيلول لا ينسى أن يؤكد انه لا يتهم الفدائيين جميعهم، إذ إن هناك عناصر مقاتلة شريفة وشجاعة تعرف واجبها وهدفها، وتتصف بمستوى خلقي وسلوكي عال، ومدربة ومؤهلة للعمل الفدائي الشريف والحقيقي، وكان يرى أنّ الفدائيين يجب عليهم أن يوجهوا نشاطهم إلى داخل الأراضي المحتلة، وأن تتمركز المقاومة في الأرض المحتلة، وتنشئ لها قواعد هناك، على أن ينسق العمل الفدائي في الأردن مع سلطات الدولة.
آخر حديث صحفي لـ»النهار»
وأضاف د. الغويين: الذين عرفوا وصفي جيداً يعرفون أنّه لم يكن خصماً للعمل الفدائي، أو ليس طرفا ثانيا للعمل الفدائي، بل إنّه في طليعة الذين نادوا بقيام العمل الفدائي، فقد كان رجلاً عسكرياً، وله تجربته العملية الطويلة، وقد لاحظ خطئًا حاول إصلاحه بشتى الوسائل، ولما أيقن أنّه قد دس على العمل الفدائي أعداء للمعركة، وأعداء للأردن وفلسطين، وأعداء للتحرير، فقد وقف أمام هذا الدس بصلابة وجرأة وشجاعة، وأعلن أنّه يحمي العمل الفدائي المقدس من الذين تسلقوه لأغراض لا علاقة لها بالفداء من قريب أو بعيد، وكان في طليعة المؤمنين بإستحالة موافقة إسرائيل على الحل السلمي، واستحالة جلائها عن شبر واحد من الأراضي المحتلة بغير القوة، مؤمنا بضرورة الحشد العسكري: جيشاً وشعباً وفدائيين في خطة واحدة وتحت قيادة واحدة، حتى يمكن أولاً إفشال مؤامرة تخريب الأردن، على أساس أنّ الأردن هو القاعدة الرئيسية لكل جهد عسكري، ثم حتى يمكن خوض معركة موحدة مع العدو الذي يدير شؤونه المختلفة تحت قيادة واحدة مستندة إلى العلم والقوة والتجربة والتخطيط.
ويؤكد وصفي أنّ خطة حكومته قائمة على أساس وضع العمل الفدائي على طريقه الصحيح، إذ إنّ العمل الفدائي كانت له بداية جيدة، لا يمكن لأحد أن ينكرها على الإطلاق، وخاصة عندما بدأت بالقلة المقاتلة المصممة على التحرير. وفي تلك المرحلة لم يكن أي مواطن أو جندي يبخل في أن يفتدي العمل الفدائي بنفسه وماله، أمّا بالنسبة للقوات المسلحة الأردنية فقد كان العمل الفدائي يجري بحمايتها ودعمها، وكانت المدن والبلدات الأردنية عرضة لغارات جوية عنيفة سقط فيها العشرات من الشهداء المدنيين والعسكريين.
وأشار د. فيصل الغويين الى أن آخر عمل داخلي قام به التل قبل سفره إلى القاهرة هو إعلان «الاتحاد الوطني» الذي أراده حزبا للأردنيين كلهم من شتى الأصول والمنابت، يلغي فكرة فصل الضفتين التي أصبح لها تيار يمثلها داخل الأردن وخارجه، بدعم عربي وأمريكي واسرائيلي غير مباشر.
وكان آخر ما قاله في اجتماع مجلس وزراء الدفاع العرب السبت 27 تشرين الثاني عام 1971 :»التقرير الذي قرأ علينا تقريرا واقعيا يعتمد على الحساب وعلى العقلانية، ويثير بعض الأمل ويبصرنا بحقيقة أنّ مجموع الجهد المحشود للمعركة أقل بكثير من ما تستحقه المعركة، وهذا لا يعني مطلقا السكوت على العدوان، ومن واجبنا جميعا الدخول في المعركة بالإمكانيات المتوافرة لدينا، والتقرير يبين أنّ عنصر الوقت عملية مهمة لو توافر المال والمعدات، ولا ينفع من أجل المعركة أن يكون لدينا جبهة قوية متكاملة وأخرى غير قوية ولا متكاملة، فتكامل الجبهات أمر ضروري من ناحية التساند العام.. والتخطيط بحاجة إلى قيادة سياسية وعسكرية، ويجب أن يكون جهدنا في المعركة حقيقيا وصحيحا ومحسوبا، وليس جهدا يوميا، وأي خطأ يرتكب في أي جبهة ينعكس علينا جميعا وعلى المجهود العام..».
وفي آخر حديث صحفي له أجرته النهار اللبنانية، أكد أنّه يعلّق على اجتماع رؤساء أركان حرب الجيوش العربية أهمية قصوى، مبديا اهتمامه بالتقرير العسكري لرؤساء الأركان لكونه أكثر التقارير العسكرية فهماً وإدراكا، مشيداً بواضعه سعد الدين الشاذلي، معتبراً إياه شخصية عسكرية ذكية ملمة بأصول المهنة العسكرية.
طارق باشا يتابع الملف الغامض
وختم د. فيصل الغويين: في 28 تشرين الثاني أغتيل وصفي أثناء دخوله فندق الشيراتون في القاهرة، وأعلنت منظمة لم تكن معروفة سابقا تدعى منظمة «أيلول الأسود». مسؤوليتها عن حادثة الاغتيال الآثمة، وفي مساء ذلك اليوم الحزين رثاه الحسين، قائلا: «عاش وصفي جنديا منذورا لخدمة بلده وأمته، وقضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلهما برجولة وشرف ...».
في القاهرة استكمل التحقيق والمحاكمة التي شابها الكثير من العبث، الرجال الأربعة الذين أطلقوا الرصاص من مسدساتهم قدموا إلى المحاكمة بعد اعترافهم، لكن تقرير الطب الشرعي أكد أنّ الرصاصة القاتلة لم تكن صادرة عن مسدس، وإنّما خرجت من بندقية قناص محترف جاءته من مكان مرتفع في البناية المقابلة لمدخل الفندق، وعندما قرأ السادات الحيثيات التي توضح أنّ مقتل وصفي لم يكن من مسدسات المدعين داخل الفندق، وأنّ رصاص المسدسات الذي أطلق على الشهيد بعد أن وقع لم يصبه أوقف المحاكمة، ثم تدخل الرئيس الليبي معمر القذافي وأطلق سراح المتهمين.
يؤكد «طارق علاء الدين» الذي كلف بمتابعة ملف الاغتيال مع الجانب المصري أنّ المصريين أظهروا منذ البداية عدم رغبتهم في التعاون لمعرفة ظروف الاغتيال، أو المساعدة في الكشف عن من يعتقد أنّ له صلة بالحادث، وانتهى الأمر بالأشخاص الذين وردت أسماؤهم في شبكة تقاطعات المشاركة بتنفيذ قرار الاغتيال إلى الاغتيال الغامض في ما بعد.
تحرير فلسطين.. هذا هو الحل..!
وعلى صلة.. قال الأستاذ طاهر العدوان، وزير الإعلام الأسبق: في ذكرى رحيل وصفي التل، أقدم شهادتين، كنت ذكرت بعضها في مقالات نشرت خلال سنوات سابقة، وهي تروي ما كنت لمسته عن قُرب عن وصفي التل، في السنة التي تلت أيلول عام 1970.
الشهادة الاولى: كان الشهيد معتزا بجوانب سيرة حياته المتعلقة بالصراع ضد المشروع الصهيوني، مؤمنا بالحل العسكري لاسترداد فلسطين، فمن انخراطه في صفوف الثوار إلى انتسابه للجيش السوري، ثم سيرته العقائدية كقومي سوري، كان وصفي منشغلا بكيفية تحرير فلسطين، وهو لم يتراجع عن هذه العقيدة، حتى بعد الصدامات مع المقاومة، ولقد اطلعت على ما كتبه بخط يده من توجيهات الى المرحوم رياض المفلح، الذي كان يرأس الوفد الأردني للتفاوض مع منظمة التحرير في مدينة جدة بالسعودية، وهي تحمل ملامح الأفكار والنقاط ذاتها التي حملها الى مجلس وزراء الدفاع العربي في القاهرة، الذي أُغتيل أثناء مشاركته فيه.
وأهم ما في المشروع نقطتان 1- السماح باعادة قواعد للفدائيين في بعض الأماكن المحددة القريبة من خط النار مع الاحتلال الإسرائيلي 2- وضع هذه القواعد تحت الحماية والإشراف المباشر للقوات الأردنية وقيادة الجبهة الشرقية «التي كانت تضم سورية والاردن».
الشهادة الثانية: ان وصفي عمل بجهد لم يتوقف بعد أحداث أيلول من أجل نفي صفة الحرب الأهلية عن ما جرى والتصدي لأي ممارسات وأحداث قد تنشأ على خلفية إقليمية سعيه الحثيث، كرئيس للوزراء، إلى إعادة ترميم العلاقات الوطنية الداخلية، بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني، فكان ان أقام «الاتحاد الوطني الأردني» لهذه الغاية كحزب وطني جامع، وأسند رئاسته إلى قيادة من أصل فلسطيني «مصطفى دودين» الذي خلفه فيها «جمعه حماد»، وكان استقدم محمد كمال من بيروت لتولي إدارة التلفزيون، فيما بقي على اتصال وتواصل دائم مع المحامي المرحوم إبراهيم بكر وعدد آخر من المقربين من منظمة التحرير.
من الصعب وضع وصفي التل، الرجل والإنسان، السياسي والمقاوم، في سلة أحد او تحت عباءة أي تيار، فقد كان بحجم الوطن وعلى مستوى رموز الأمة، ولم يكن إلا ضحية تآمر عربي رسمي، كان المقصود منه إضعاف الأردن وحصاره، أما الذين شاركوا في اغتياله فلم يكونوا إلا مجرد أدوات..
الاغتيال.. مهم جدا..!
أمام ذلك.. تبرز المصلحة الإسرائيلية في التخلص من الرجل، ومن المؤكد دخولها على خط الاغتيال، وهذا لا يبدو مجرد حديث في نظرية المؤامرة، فمراكز الرصد والقرار الإسرائيلية تعرف خطورة واستثنائية المشروع الذي ألزم نفسه به منذ ترؤسه حكومته الأولى، وبرنامجه للدفاع عن فلسطين الذي تحول لاحقا إلى مشروع حرب شعبية يشارك فيها الجيش الأردني.
كان رجل دولة من نوع خاص، وعلماً من أعلام الفكر والسياسة، جسوراً في عشقه لوطنه الأردن، واضح الرؤية، جريء الرأي، عميق الانتماء لقضية العرب الأولى، كتب لها، وناضل من أجلها، واستشهد في سبيلها.. رحمه الله تعالى وحمى الله هذا البلد.. المملكة الأردنية الهاشمية.. اللهم آمين.